السبت، 8 مارس 2014

لمحات من حياة العلامة الشنقيطي محمد الاغظف بن أحمد مولود الجكني

لمحات من حياة العلامة الشنقيطي محمد الاغظف بن أحمد مولود الجكني

تنبع أهمية الترجمة للعلامة محمد الاغظف بن أحمد مولود المحظري الجكني الشنقيطي من كونه أحد أعلام بلاد شنقيط الكبار وسفرائها العظام،
المجهولين لمعظم الدارسين والباحثين، فضلا عن القراء العاديين. وكذلك من جهة كونه لم يعثر له حتى الآن على ترجمة متكاملة له.. فباستثناء المعلومات المتناثرة التي قمنا بتجميعها اعتمادا على المحيط الذي نشأ فيه المترجم، أو شذرات قليلة تضمنتها هوامش بعض مؤلفاته أو المؤلفات التي تحدثت عنه، لا يكاد يوجد عنه أي شيء يذكر.
وتنحصر الشذارت التي عثرنا عليها حوله أساسا في ما وثق في مؤلفاته تلميذه السلطان المغربي المولى عبد الحفيظ، أو في كتاب الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام للسملالي، أو كتاب المعسول للسوسي.
والشكر موصول بهذه المناسبة لجامعة شنقيط العصرية ورئيسها الدكتور محمد المختار بن اباه والهيئات المتعاونة معها في إطار هذه الندوة، على ما أتاحته لي من فرصة إكمال ما بدأته من التوثيق لهذا العلم البارز قبل سنوات في كتابي تاريخ موريتانيا القديم والوسيط والحديث المنشور سنة 2011م. كما أشكر كل من
ساهم في إنجازي لهذا العمل. وسأتناول هذا العرض في محورين رئيسين:
المحور الأول: أستعرض فيه لمحة خاطفة عن ما للعلماء الجكنيين من مكانة في المجتمع الشنقيطي. والمحور الثاني: أتناول فيه ما وقفت عليه من حياة هذا العلامة الجليل.
أولا: مكانة العلماء الجكنيين في المجتمع الشنقيطي
لا يقدر مقولة العلامة المجتهد سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي المتوفى عام 1233هـ رحمه الله تعالى "العلم جكني" حق قدرها إلا من ألم بالدور الذي لعبه العلماء الجكنيون في إطار الحركة العلمية والثقافية لبلاد شنقيط، واطلع على مدى مساهمتهم في الإشعاع العلمي والثقافي للعلماء الشناقطة، الذي ما يزال محتاجا إلى الاعتراف به على المستوى العربي والإسلامي، كرافد أساسي للنهضة الأدبية والعلمية التي عرفتها أقطار مختلفة من مصر إلى المملكة العربية السعودية مرورا بالمغرب والعراق والأردن والكويت وغيرها.
فالجكنيون كانوا ركيزة أساسية من ركائز قبيلة لمتونة المرابطية الشنقيطية إبان الفتح المرابطي للمغرب، وكانت محلتهم بعد تأسيس الدولة المرابطية متمركزة بطنجة التي أصبحت بفضل تشجيع المرابطين للمعرفة من الحواضر العلمية المعروفة في شمال المغرب حالها حال أغمات في جنوبه. وبعد انهيار الدولة المرابطية على يد الموحدين عادوا إلى الصحراء الشنقيطية، حيث أسسوا بآدرار حوالي (680هـ- 699هـ) ، قريتهم التي منحوها اسم تينيگي، وتينيگي (تن إيگن) ليست سوى طنجة التي جاؤوا منها، فأصل طنجة قبل تفصيحها العربي (تن إيگن).
ومثلت تنيگي إلى جانب جارتيها شنقيط وودان، وتيشيت، وولاته، وتنبكتو أهم حواضر بلاد شنقيط العلمية. واشتهرت تنيگي برواج العلم فيها حتى خرابها حوالي 1062هـ، حتى قيل عنها –على سبيل الإخبار أو المبالغة- إنه "كانت توجد فيها ثلاثمائة جارية كل واحدة منهن تحفظ موطأ مالك"، و"إن أكثر بقاع الدنيا علما آنذاك كانت مصر وتنيگي". ولم يحفظ لنا التاريخ مع الأسف من هؤلاء الأعلام سوى آحادا متفرقين.
أما جكنيو العصرين الحديث والمعاصر اللذين كانا أوفر حظا في هذه البلاد من حيث التدوين من العصر الوسيط، فقد حفظ لنا التاريخ أسماء عدد كبير منهم، حيث تحدث المؤرخ المختار بن حامدن في موسوعته التاريخية "حياة موريتانيا" عن مائة ونيف من علمائهم، وترجم الأستاذ يحيى بن البراء في موسوعته الإفتائية "المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوى ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء" لمائة وثلاثين مفتيا من فقهائهم. ولا شك أن من بقي أكثر بكثير ممن ذكر في هاتين الموسوعتين كما تدل على ذلك الفتاوى والمؤلفات والمطارحات العلمية والأدبية المأثورة عنهم، ومنهم علمنا الذي سنتحدث عنه اليوم في هذه الندوة الشنقيطي محمد الاغظف بن أحمد مولود المحظري الجكني.
ويكفي تجكانت أن منهم إمام الغرب العلامة الأجل المختار بن بونه (ت 1220هـ) الذي لم يظهر عالم شنقيطي بعده إلا وله عليه منة، كما صرح به العلامة الأديب الحافظ أحمد بن الأمين الشنقيطي، صاحب الوسيط، فقد وصفه بأنه "تاج العلماء الذي طوق بحلى علمه كل عاطل، وورد هيمُ الرجال زلاله، وصدر عنه كلهم وهو ناهل، ولا يوجد عالم بعده إلا وله عليه الفضل الجزيل، بما استفاد من مصنفاته، وتلقى من مسنداته".
ومنهم العلامة المربي الشيخ محمد المختار بن محمد المشهور بابن بلعمش (ت 1287هـ) مؤسس مدينة تيندوف حول 1270هـ الذي "جعله الله إماما يقتدى به في العلم والدين ومهمات الدنيا، اجتمعت فيه أمور العلم والقضاء والعدل والرئاسة" كما قال عنه الطالب أبو بكر المحجوبي في كتابه "منح الرب الغفور في ذكر ما أهمله صاحب فتح الشكور". ولم يمت هذا العالم الجليل عن تيندوف حتى أصبحت حاضرة علمية كبيرة عامرة بالمؤلفات النادرة، يقصدها العلماء، مر عليها كما نقل السوسي في المعسول "العلامة الشهير في الشرق محمد محمود التركزي, فبقي هناك ما شاء الله يدرس صحيح البخاري، ثم توجه إلى المشرق. كما مر من هناك الشيخ ماء العينين فصلى في المسجد ما شاء الله, و محمد يحي الولاتي في رحلته إلى الحج (محمد المختار السوسي/ المعسول/ 18/159-160).
ومنهم علامة الزمان وخاتِمة المحققين قاضي القضاة محمد الأمين بن أحمد زيدان (ت 1335هـ) صاحب التصانيف المحررة كشرحه لمختصر خليل في الفقه المعروف بالنصيحة، وشرحه لمراقي السعود في الأصول للعلامة المجتهد سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي وغيرهما.
ومنهم العالم الجامع بين الشريعة والحقيقة الشيخ سيدي عبد الله بن ما يابَى وأبناؤه العلماء النبهاء الذين برزوا كلهم في العلم، واشتهر منهم الشهرة الواسعة ثمانية إخوة هم محمد حبيب الله، ومحمد فاضل، وسيد أحمد، ومحمد الكرامي، ومحمد العاقب، ومحمد تقي الله، ومحمد الخضر، ومحمد محمود.
وقد هاجر من هذا البيت أربعة أعلام أجلاء ملأوا المغرب ومصر والأردن والحجاز علما وفضلا هم الشيخ العلامة الفقيه المحدث أحد مجددي العلم بالأزهر محمد حبيب الله بن مايابى دفين القاهرة، وأخوه الشيخ المتبحر العلامة حافظ الوقت الشيخ محمد الخضر مفتي المالكية بالمدينة المنورة ودفينها، وأخوهما حريريُّ زمانه حافظ المنقول والمعقول الجامع بين الشريعة والحقيقة الشيخ محمد العاقب دفين فاس، وأخوهم الفقيه المحدث القارئ بالقراءات السبع الشيخ محمد تقي الله دفين المدينة المنورة.
ومنهم العلامة الأديب الألمعي المقرئ والمدرس محمد الحسن (بيدر) بن الإمام (ت 1372هـ) الذي تخرج على يديه أفواج من فحول العلماء من تجكانت ومن غيرهم.
ومنهم العلامة المقرئ المؤلف الزاهد الشيخ أعمر بن محم بوبه تلميذ سابقه الذي تصدر للتدريس وتخرج على يديه العلماء أفواجا (ت 1412هـ).
ومنهم قرين سابقه شيخ الشيوخ بالبلاد السعودية الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار (آبه بن اخطور ت 1393هـ) المدرس بالمسجد الحرام الذي كان آية في العلم والتفسير واللغة وأشعار العرب، واحتفى به العلماء والملوك، ودرس في الجامعات السعودية، ونال أرفع المراتب العلمية هناك. وقرينه العلامة المحدث الفقيه محمد عبد الله ولد آدو الذي تولى القضاء ثم التدريس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (ت 1424هـ) بالمدينة المنورة.
وقرينهما العلامة إبراهيم بن عبد الله الجكني الذي كان يشارك الشيخ آب أحيانا في درسه في التفسير بالحرم المدني، وتولى التدريس والقضاء بالسعودية وتوفي 1387هـ. والعلامة أحمد خونا بن خطار الجكني الذي توظف في التدريس وفي أمانة المكتبات في السعودية وتوفي 1414هـ.
والعلامة المقرئ محمد الأمين بن أيده الجكني المدرس وعضو اللجنة العلمية لمراجعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة ت1422هـ.
والعلامة محمد الأمين بن محمد الخضر بن مايابى الجكني قاضي القضاة بالأردن ووزير المعارف فيها، الذي ختم بالجوار بالمدينة المنورة ت 1410هـ.
والعلامة محمد المختار بن أحمد مزيد الجكني المدرس بالمعهد العلمي بالرياض ثم بدار الحديث ثم بالجامعة الإسلامية، وكانت له حلقة عامرة بالمسجد الحرام ت 1405 بالمدينة.
والعلامة الجليل محمد فال بن سيدي محمد البيضاوي الجكني القاضي والمفتي بالمملكة الأردنية المتوفى 1396هـ بعمان. والعلامة القاضي محمد فاضل بن محمد تقي الله بن مايابى الذي توظف بوزارة الإعلام السعودية وتوفي بالقاهرة 1382هـ.
والعلامة المختار بن أحمد محمود الجكني المدرس في معهد العلوم الإسلامية بالأردن ت1380 بعمان. والعلامة المختار بن محمد عبد الله المدرس بالحرم المدني وبدار الحديث بالمدينة المنورة المتوفى 1394هـ.
وقائمة العلماء الجكنيين طويلة جدا لا يمكن استقصاؤها في مثل هذا العرض "فليقس ما لم يقل"، وآخر من انطفأ من أعلامها العلامة اللغوي الأديب محمد عبد الله بن الصديق الذي عمل لثلاثين سنة قاضيا ومفتيا ومدرسا بالإمارات العربية المتحدة (ت 1433هـ) بانواكشوط، وقد حظيت بشرف التعرف عليه قبيل وفاته في بيته بتفرغ زينه.
والعلامة أحمد بن أحمد المختار صاحب كتاب مواهب الجليل من أدلة خليل" وتكملة عمود النسب المتوفى قبل أربعة أشهر (1434هـ) بالمدينة المنورة. وقبلهما بسنوات (1408هـ) خاتمة الحفاظ العلامة محمد يحيى بن الشيخ الحسين الذي كان يلقي المتون من حفظه، وقرينه العالم الشاعر الناجي بن محمود الذي سبقه بسنة واحدة، والعلامة عبد الله بن بونه المجاور بالمدينة المنورة الذي توفي في نفس الفترة، وكان والدنا العلامة المؤرخ المجاور المختار بن حامدن يمر عليه في منزله كل جمعة عائدا من الحرم المدني، ويسمي ساعته التي يقضي معه بساعة الجمعة، وتوفي قريبا من سابقه.
ثانيا: العلامة محمد الاغظف بن أحمد مولود الجكني الحوضي:
ينحدر العلامة محمد الاغظف بن أحمد مولود الجكني الحوضي وأحيانا يقال الولاتي من أسرتين علميتين شهيرتين ببلاد شنقيط، فأبوه أحمد مولود بن خي بن محمد عبد الدائم المحظري الجكني، وأمه خدي بنت الطالب محمد بن عبد المالك الداودي الولاتي.
ولد حوالي سنة 1262هـ بمنطقة أحياء الوسرة بالحوض، وهي أحياء جكنية من بطون مختلفة خرجت من تينيگي (منتصف القرن الحادي عشر للهجرة) إبان اندلاع الحرب فيها، واستقرت بالحوض، وتواشجت فيما بينها وتعاضدت فعرفت بالوسرة التي تعني التشابك والتعاضد. واختار له أبواه اسم جده من جهة الأم القطب الكبير العلامة الصالح محمد الاغظف بن أحمد (احماه الله) الداودي (ت 1217هـ) مؤسس الطريقة الغظفية بالبلاد.
أخذ القرآن ومبادئ العلوم في بيته وبين ذويه، ثم انتقل إلى مدينة ولاته التي كانت يومها في أوج عطائها العلمي، فدرس على خاله القاضي صاحب النوازل أحمد بن عبد المالك الداودي الولاتي (ت 1303هـ) الفقه، وأخذ عن معاصره العلامة محمد يحي بن محمد المختار الولاتي الذي أجازه في علوم الحديث والأصول والعربية وغيرها. كما نهل من معين مكتبات ولاته، وارتوى من عطاء شيوخها. ثم تاقت نفسه إلى الرحلة فرحل إلى كل من تنبكتو وتيشيت.
وبعد طلب حافل للعلم عاد إلى أرضه فتصدر للتدريس والإفتاء، ولم يلبث أن ذاع صيته هناك، لاسيما في النحو والآداب وعلوم اللغة، حيث يذكر العلامة الطالب أحمد بن ديده الجماني أن الشيخ محمد الاغظف هو أول من اعتنى بتدريس احمرار ابن بونه على ألفية ابن مالك في النحو، ونشره في بوادي الحوض، وأن معظم من اشتهر بتدريسه في تلك المنطقة كان من تلامذته مباشرة أو بواسطة. وكانت محظرته عامرة في العشرية الأخيرة من القرن الثالث عشر، ومن أبرز من أخذ عنه فيها العلامة محمد الخضر بن مايابى الجكني الذي اتصل به سنة 1298هـ فأجازه في قراءة نافع، وأخذ عنه عددا من المتون الفقهية، ومحمد الأمين بن إبراهيم، ومحمد المختار بن اكاي، وأحمد بن محمد آبه الجكنيون، والشيخ سيدي محمد بن إلياس الجماني وغيرهم.
ورحل العلامة محمد الاغظف إلى المشرق فحج ورجع إلى بلاده، ثم حج ثانية، وثالثة. ودرس في الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، وكانت له مطارحات علمية وأدبية بالمشرق ولقاءات مع العلماء هناك.
وفي طريق عودته الثالثة من الحج التقى في المغرب بالسلطان الحسن بن محمد سنة 1311هـ/ فأعجب بعلمه، ورغب إليه في تعليم أهل بيته من الأمراء وفي مقدمتهم ابنه الأمير عبد الحفيظ الذي لازمه ونهل من علمه، وأعجب به أي إعجاب، وتبوأ محمد الاغظف في تلك الفترة مكانة مكينة بين علماء المغرب أهلته لحمل لواء الفتوى القاضية بخلع المولى عبد العزيز بن الحسن ومبايعة أخيه المولى عبد الحفيظ الذي هو تلميذه سنة 1320هـ، وعينه المولى عبد الحفيظ بعد توليه مفتيا للديار المغربية، وأصبح بذلك بيت الشيخ محمد الاغظف مركزا علميا مقصودا يؤمه العلماء وطلبة العلم من مختلف مناطق المغرب، وملاذا للوافدين من علماء شنقيط ومشاهيرها.
وكانت ميزات العلامة محمد الاغظف التي لفتت انتباه من كتبوا عنه من أعلام المغرب فقهه الواسع، وتبحره في اللغة والأدب والشعر، ثم عبادته الدائبة، وورعه الفائق. فهذا السوسي في كتابه "المعسول" يسرد في معرض حديثه عن الشيخ ماء العينين القلقمي الشنقيطي قصة تشهد له بالورع التام والإقبال الدائم على الله، حيث يقول: "وحدثني الباشا منُّو أيضا قال رجع الشيخ ماء العينين إلى مراكش حين كان مولاي عبد الحفيظ خليفة أخيه هناك، فوجدنا هبت علينا نسمات من الحياة الجديدة العصرية, وقد تزلزل اعتقادنا فيه (...) قال الباشا: ومن الشنگيطيين عالم ورع إلى الغاية لم أعهده يرسل لسانه في أحد يسمى محمد الأغظف، وهو من الذين يصاحبهم الخليفة مولاي عبد الحفيظ ويؤلفون له ويذاكرهم في مجالسه العلمية, وحين أكثر الناس في انتقاد الشيخ ماء العينين, أقبلت أسائله عن أحواله, فأشار إلي أن أشتغل بذات نفسي" (المعسول/ 4/ 84). وهذا القاضي العباس بن إبراهيم السملالي صاحب "الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام" يصفه بأنه "الفقيه البركة الناسك، الشيخ العلامة الأورع المشارك، الذي لا ينفك عن ذكر الله، المعود لسانه دائما كلمة لا إله إلا الله، شيخ الأخيار والأمراء والكبار والعرفاء" (الإعلام 7/ 218).
أما العاهل المغربي المولى عبد الحفيظ فتحدث عن شيخه بعاطفة جياشة في كتابه العذب السلسبيل في حل ألفاظ خليل واصفا إياه بأنه شيخه "الولي الصالح والقطب الواضح، ذو التآليف العديدة، والفوائد المفيدة، والقدم الراسخة في معرفة الله عز وجل سيدي محمد الاغظف، حج وهاجر واعتكف، وقام من آناء الليل نصفه أو كله، رجل من أهل الجنة على وجه الأرض، لا غل ولا حقد ولا حسد ولا غيبة، إذا زنته بقول الله تعالى كان ذلك له مقاما" (العذب السلسبيل/ 3).
وكان مع علمه معدودا في الشعراء، يذكر المؤرخ المغربي عبد الوهاب بن منصور الذي راجع كتاب الإعلام وقدمه للنشر أن السملالي ترك قدر ثلاث صفحات بيضاء في ترجمته ليضمنها نماذج من شعره لكن ذلك لم يقع(الإعلام 7/ 218).
ونال محمد الاغظف الحظوة التي لا مزيد عليها لدى تلميذه ملك المغرب المولى عبد الحفيظ وأعيان الدولة المغربية. فكان عونا للشناقطة الذين يفدون إلى تلك الديار وبابهم الذي يدلفون منه إلى السلطان، وفد عليه أبناء مايابى : محمد العاقب ومحمد حبيب الله ومحمد الخضر رفقة ابن عمهم البيضاوي إلى المغرب، فقدمهم محمد الاغظف إلى السلطان وحضرته فقربهم السلطان وأكرم وفادتهم. وانضم محمد الخضر إلى علماء القصر مع شيخه محمد الاغظف كما أشار إليه السوسي في المعسول، قبل أن يهاجر إلى المشرق. أما البيضاوي فلازم الشيخ محمد الاغظف إلى أن تبوأ مكانة خاصة عند السلطان الذي قربه وآل به الأمر إلى تعيينه قاضيا ثم باشا لتاردانت فقام بباشويتها أحسن قيام وكان أديبا شاعرا مفلقا.
وحبس المولى عبد الحفيظ -كما قال القاضي السملالي في كتابه الإعلام- على شيخه "محمد الاغظف وعلى ولده محمد عبد الله وعقبهما ما تناسلوا وامتدت فروعها جميع البياض المسمى بأرض سيدي أحمد الرحالي بتسلطانت وبوره وجميع أربع فرديات عن كل عشرة أيام من ساقية تسلطانت حبسا مؤبدا وتضمن الظهير الحفيظي تحديد الأرض المذكورة وبورها وهي نحو ألفي هكتار"(الإعلام 7/ 218).
لكن الفرنسيين استرجعوا هذه الأرض بعد تخلى المولى عبد الحفيظ عن الحكم، فالشيخ محمد الاغظف كان من ألد أعدائهم ومعارضي وجودهم بالمغرب، وكان يحرض على مقاومتهم، ويرفض الاعتراف بسلطة فرنسا على المغرب بعد نفي السلطان عبد الحفيظ، مما جعل الجنرال الفرنسي اليوتى يأمر بوضعه تحت الإقامة الجبرية بمراكش، إلى أن توفي، وكانت وفاته حدثا مشهودا في المغرب، ودفن بروضة الإمام السهيلي، أحد السبعة رجال. قال السملالي في الإعلام: "توفي بمراكش في شوال عام 1337هـ ودفن بروضة الإمام السهيلي، وقام أهل المدينة بتجهيزه قياما عجيبا، واجتمع عليه خلق كثير، وجم غفير، كبراء وأجلاء وغيرهم." (الإعلام 7/ 219) ورثاه خلق كثير في مقدمته تلميذه وابن عمه الباشا البيضاوي باشا تاردانت.
أما مؤلفاته التي أضاعت الأوضاع السياسية المضطربة أغلبها فاشتهر منها شرحه المحكم لمنظومة "السبك العجيب لمعاني حروف مغني اللبيب" التي ألفها تلميذه المولى عبد الحفيظ، وطبع بمصر في عهده، ووضع عليه علي بن مبارك الروداني حاشية أسماها "فتح الصمد على شرح محمد الاغظف بن أحمد" وصف في مقدمتها محمد الأغظف بـ "الفقيه العلامة، البحر الفهامة، المشارك في جميع العلوم المنثور منها والمنظوم"..
ولأن العلامة محمد الأغظف كان يدعى أحيانا بالولاتي فقد تسبب ذلك في نسبة العديد من كتب التراجم وفهارس المكتبات هذا الشرح للعلامة محمد يحيى الولاتي خطأ، واعتمد هذه النسبة عدد من مترجمي الولاتي، وموثقي المكتبات الالكترونية التي تحتوي على نسخ من هذا الشرح. وربما كان السبب في هذا الخلط هو كون محمد يحيى الولاتي كان قد ألف في صغره نظما لمعاني حروف مغني اللبيب. والشرح لمحمد الاغظف كما نص على اسمه في العنوان محشيه الروداني وذكره غير واحد من العلماء.
وهذا الكتاب هو أول مؤلف شنقيطي يعرف طريقه إلى الطباعة حيث طبع 1325هـ، يليه في ذلك الوسيط في تراجم أدباء شنقيط الذي طبع سنة 1329هـ.

الإمام شيخ الإسلام الحافظ الهمام الشيخ مُحَمَّد حبيب الله بن ما يابَى الجكني الشنقيطي

ترجمة
الإمام شيخ الإسلام الحافظ الهمام
الشيخ مُحَمَّد حبيب الله بن ما يابَى الجكني الشنقيطي
رحمه الله
كتبها العلامة الشيخ
محمد عبد الله بن الصديق الجكني
رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم

هو العلامة المحدث الحافظ المتبحر في أنواع الفنون الذائق المحرر المقرر للمتون أبو المواهب الشيخ محمد حبيب الله بن الشيخ سيدي عبد الله بن سيدي أحمد - الْمُلَقّب ما يابَى لكونه سخيّاً لا يرُدُّ سائلاً - التّجْكَنِيُّ الْمُنتمي إلى قبيلة تَجكانت التي ينتمي إليها كثيرٌ من بحور العلماء .

ومنهم :

علامة الآفاق على الإطلاق الشيخُ الْمُخْتارُ بنُ بونا صاحب التآليف النافعة المحرَّرَة كـ(الاحمرار) الذي مَزَجَ به ألفية ابنِ مالك ، وشرحهما المسمى بـ(الطُّرَّة) ، و (وسيلة السعادة) في علم التوحيد ، و (تحفة المحقِّق في حل مشكلات علم المنطق) ، و (مُبَلِّغُ المامول) الذي عَقَدَ فيه متن جمع الجوامع في أصول الفقه وغير ذلك .
وكالعلامة النحرير والشاعر البليغ الخنذيذ الشهير الإمام بن أحْمَد بن ألفغَ .
وكعلامة الزمان وخاتِمة المحققين قاضي قضاة البلاد الشنقيطية محمد الأمين بن أحمد زيدان صاحب التصانيف المحررة كشرح المختصر في الفقه المالكي ويسمى (النصيحة) ، وكشرح مراقي السعود في أصول الفقه وغيرها .
وكوالد المؤلف الجامع بين الشريعة والحقيقة : الشيخ سيدي عبد الله بن ما يابَى وأبنائه النبلاء ، ومنهم أبو والدتنا الفقيه سيد أحمد ، فهم بيتُ عِلْمٍ تُشَدُّ إليه الرحال في تلك البلاد ، حتى قيل فيهم : مُعضِلَةٌ ولا ابن ما يابَى لَها ، نظير ما قيل في علي كرَّم الله وجهه : مُعضلة ولا أبا حسن لَها ، وقد قال فيهم الشاعر الأديب العلوي الذائق النجيب محمد عبد الرحمن بن جدود :

بيتُ (ابنِ ما يابَ) تاتِيهِ العُلوم ولَـمتاتِ العلوم سوَى بيتِ (ابنِ ما يابَى)
ما نابَ من مُشكِلاتِ العلمِ فاغْدُ بهإلى (ابنِ ما يابَ) يكشِفْ عنكَ ما نابا

وقد قال الشيخ سيديَّ - الشهير بالصيت والعلم الغزير - في الثناء على قبيلته شاهداً بِما هو معلومٌ عنها :

عيدُ الوفود لدى اللأواء جاكانُوليس ذاك حديث العهد بل كانوا
وزاد عليه أحد الشعراء :
فحيثُما كان مَجْدٌ كان معشرهمولو يكون محل المجد شوكـان
وزاد آخر :
وفي الْمَآثِر من آثارهم طرقوعندهم لِمِحال المجد إمكان
وزاد آخر :
وهم أسودٌ لدى الهيجاء باسلةوهُم لكعبة بيتِ العز أركـان
ولقد كان الشيخ سيديَّ المذكور الملقب بابَ بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديَّ الكبير من كبار العلماء المجتهدين والأدباء الْمُبَرِّزين ، وكان في أول العهد الفرنسي بمنزلة الحاكم العام لِموريتانيا ، وكان الشعراء يتوافدون إليه ويتسابقون في مدحه ، ولكنه لَما اطَّلَعَ على مؤلفات الشيخ محمد حبيب الله منظومها ومنثورها أعجب بِها وتَحَوَّل من مَمدوحٍ إلى مادح ؛ فمدح الشيخ وآلَ بيتِه وقرَّظ تآليفَه بقصيدته الرائعة التي لا يكاد يوجد لَها نظير في بابِها ، وهي :
حَيَّا الإلَهُ حبيـبَ الله مَـن لَزِمـابيتَ الإله ، وحَيَّا البيتَ والْحَرَمـا
إنَّ الزَّمانَ إذا يابَـى وُجـودَ فتـىًمثلِ (ابنِ ما يابَ) لَمْ يُعْدَدْ من اللُّؤَما
ما زال يدأبُ في علمٍ وفـي عَمَـلٍيَقفُو بأعمالِـه آثـارَ مـن عَلِمـا
حتى أباح حِمَى العَلْياء فـي زَمَـنٍقلَّ الْمُبيحُ مِن العلياء فيـه حِمَـى
بالعشر يَقْرَأ آياتِ الكِتـاب كمـاقد كان أنزلَها ربُّ الوَرَى حِكَمـا
مَشْفوعَةً مِنَ اَحاديثِ الرسول بِمـاقد كان صَحَّحَه الْحُفَّاظُ والعُلَمـا
إن الذي أمسكت كفـاهُ مُعتَصَمـاًبذينِ قد أمسكَتْ كفـاهُ مُعْتَصَمـا
طابت أرومَتُـه قِدْمـاً ومَحْتِـدُهوالفرعُ إن كَرُمَتْ أعراقُـهُ كَرُمـا
يَسْعَى مَساعيَ آبـاءٍ لـهُ سَلَفـواساعينَ للمجد سعي السادة الكُرما
لا يَرتَضِي أنـه لا يُرتَضَـى خَلَفـاًومَنْ يُشابِهْ فعال الأصل ما ظَلَمـا
أبدَى تصانيف قرَّت عيـنُ ناظرِهـاكالدُّرِّ يَحْسُـنُ منثـوراً ومُنتظمـا
أو روضة من رياض الْحَزْن طيبـةغَنّاءَ جاد عليها الغيث وانسجمـا
يَسمو إلى الْحَرَمَيْن الطَّاهرَيْن فمـاتَثنـي عَزيمَتَـه العُـذّال إن عَزَمـا
إن الْمَـكـارمَ أرزاقٌ مُقَسَّـمَـةٌبينَ البريَّـة مِمَّـن يَبْـرَأ النَّسَمـا
نَهْوَى الوُصوُلَ إلى أرضِ الحِجاز فماننفَكُّ نَذكُـرُ ذاك البـانَ والعَنَمـا
لكنمـا الخلـقُ مَجبـورٌ تُصَرِّفُـهأيدي الْمَقاديرِ مُضطـرّاً ومُعتزمـا
وربَّمـا تُسعِـد الأيـام آونــةفيُدْرِك الْمَـرْءُ آمـالاً لـه رُبَمـا
رَشَدتُـمُ أيهـا السـادات إنكـمُأعْمَلتُمُ للإلـه النُّجْـبَ والْهِمَمـا
أرضَى سِواكُمْ قُعودُ الخالِفينَ ومـازالت نجائبُكُم تَسمو بكـم قُدُمـا
بوركتمُ وجُزيتُـمْ كـل صالحـةدنيا وأخرَى ودام الشمـلُ مُلْتَئِمـا
بِجاهِ سَيِّدِنا الْمُختـار مِـن مُضَـروسائر الأنبيـاء السـادة العُظَمـا
عليهـمُ صلـواتُ الله ثُـمَّ علـىتـالٍ سبيلَهُـمُ بَـدْءاً ومُختَتَمـا
وكفى بشهادة مثل هذا الإمام الشهير بحر العلم الغزير .
وقد وُلِدَ الْمُتَرْجَمُ الْمَذكورُ سنة خَمسٍ وتِسعين - بالْمُثنّاة الفوقية - بعد الْمِائَتَيْن والألف من الْهِجْرة النبوية على صاحبِها أفضلُ الصلاة وأزكى التحية ، وذلك في قرية تِگـْـبَ التي تقعُ الآنَ في ولاية الحوض الغربي في موريتانيا ، وكان أكثرُ قبيلته قد استوطنوها ثُمَّ خرجوا عنها شيئاً فشيئاً إلى البوادي وبَقِيَ فيها والدُ الْمُترجم وجماعة قليلة من الناس ، ثُمَّ إن سكانَها بايعوا الشيخ والد المترجم وأقام فيها ما يشبه حكومة شرعية وازدهرت في أيامه ، وقد رزقه الله من الأولاد الذكور ثَمانيةَ عَشَرَ أكثرُهُم عُلَماء .
وقد كان مترجَمُنا من أصغرِهِم سِنّاً ، ونَشَأ بينَ إخوتِه النبلاء وأساتذته الأجلاء ، فتعلم القرآن مع رسْمِه وتَجويده على عِدّة حفاظ من أهل بلدته وقبيلته ، من أجَلِّهِم - وهو الذي تخرج على يديه في قراءة الإمام نافع - الشيخُ الذكي الذائق الفهامة الحافظ بالإطلاق : محمد الأمين بن محمود بن حبيب الجكني ؛ فقد لازمَه حتى أتقن عنده فنَّ التجويد وبرع فيه وكتبَ له الإجازة في علم القرآن بيده وخصوصاً قراءة نافع .

ثُمَّ لَمَّا أتقن علم القرآن وتجويده اشتغل بتدريسه سنين ثُمَّ أقبل على فقه مذهب الإمام مالك ، وغيره من الفنون ، ولازمَ علامة كل ناد الأستاذ الضابط المحقق الدراكة الشيخ أحمد بن أحمد بن الْهَادي اللمتوني نسباً الشنقيطي إقليماً ، وبه تخرج المترجم في العلوم ، وفَتَحَ ابنُ الْهادي له في الفنون كلها ببركته حتى صار يتعجَّبُ من عناء طلبة العلم فيه ، فكان بعده لا يتوجه إلى فن من العلم أو نوع منه أو تاليفٍ إلا فُتِح له فيه دون إقراء أحد المشايخ له ، فرزقه الله ببركة هذا الشيخ المتبحر في فنون شتى .

ثُمَّ توفي شيخه هذا في إبّان وجوب الْهِجرة من تلك البلاد حين استولت عليها الدولة الفرنسية ، فانتقل المترجم إلى أخيه العلامة المتبحر سيدي المختار بن أحمد بن الْهَادي وتعلم منه صناعة القضاء وفنوناً شتى ، ثُم كان الْمُترجم مِنْ أول مَن هاجر مِن عُلَماء تلك البلاد هو وبعضُ أبناء عمه ، وثلاثة من إخوته وهم : الشيخ المتبحر العلامة حافظ الوقت الشيخ محمد الخضر مفتي المالكية بالمدينة المنورة ، وحريريُّ زمانه حافظ المنقول والمعقول الجامع بين الشريعة والحقيقة الشيخ محمد العاقب دفين فاس رحمه الله ، والفقيه المحدث القارئ بالقراءات السبع الشيخ محمد تقي الله دفين المدينة المنورة رحمه الله ، فهاجروا حتى وصلوا بلاد مراكش وفاس ، فاشتغل المترجم بقراءة علم المنطق ودرس علم الحديث والأصول حتى تحصل على المراد من ذلك ، مع الإقبال على التآليف ما بين منظوم ومنثور .

ثُمَّ لَمَّا حصلت به الخبرة لسلطان المغرب سابقاً مولاي عبد الحفيظ رحمه الله رغب في أخذ العلم عنه ، فأسكنه معه ببلدة طنجة ياخُذُ عنه العلم ، ثُمَّ تَخَلَّصَ منه بعد مُكابدَة رَغْبَة في إتمام هجرته لله ورسوله ، فنزل بالمدينة المنورة وتوطنها . ولَمّا قدِمَ سلطان المغرب إلى المشرق حاجّاً رافقَهُ إلى أن زار معه القدس والخليل ، وحجَّ سنة حج السلطان المذكور وهي سنة إحدى وثلاثين وثلاثِمِائَةٍ وألف ، فرجع السلطان وبقِيَ المترجم بدار الْهِجرة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام .

وصَحِبَ المترجَمُ شيخَ القُرَّاء بدمَشْقَ الشام حتى أجازه في القراءات العشر ، وأجازه فيها غيره كصاحب الفضيلة شيخ القراء والمقارئ المصرية بمصر القاهرة الأستاذ الشيخ محمد علي بن خلف الحداد الحسيني رحمه الله ، وكعلامة القراءات الشيخ محمد محفوظ الترمسي المكي فقد أجازه بالقراءات العشر بمكة المكرمة حيث لأجازه المترجم في مؤلفاته ومروياته .

وللمترجَم تآليف مفيدة في فنون عديدة منها :
كتابه هذا الْمُسَمَّى (زاد الْمُسْلِم فيما اتفق عليه البُخاري ومُسْلِم) .

وشرحه النفيس (فتح الْمُنعِم) .

وحاشيته المسماة بـ(الْمُعْلِم بِمواضع أحاديث زاد المسلم) .

ومنها النظم الرائق الواضح الْمُسَمَّى (دليل السالك إلى موطأ الإمام مالك) الذي حَرَّرَ فيه زُبدَة الْمَقاصِد ، وبيَّن فيه قُصُور مَن فَضَّلَ صحيح البُخاري على موطأ الإمام مالك ، وذكر فيه أسانيده به إلى مؤلفه ، وأجاد في خاتِمته جدّاً ببيان جواز استدلال الْمُقَلِّدِ بالقرآن والحديث ، وتحريم الاستباط على غير الْمُجتَهِدِ ، وأوجَبَ فيه تقليد القاصر عن رتبة الاجتهاد لأحد الأئمة الأربعة ، وعدد أبياته 922 بيتاً .

وشرحه شرحاً كبيراً سَمَّاه (تبيين الْمَدارك لنظم دليل السالك) .

ثُمَّ انتخَبَ منه حاشية للنظم سَمَّاها (إضاءة الحالك من ألفاظ دليل السالك) ، وهي مطبوعة . وهذا التاليف هو الذي بين أيدينا الآن ومعه حاشيته النفيسة .

ومنها نظمه النافع في أدلة التوسل والتبرك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وآثارهم بعد موتِهِمْ وما أشبه ذلك من مسائل المعتقدات التي يقع فيها النزاع بين الناس في هذا العصر الْمُظلِم ، وقد سَمَّاهُ بِما لفظه :

سَميتُه : بحُجَجِ التوسُّلونُصْرة الحق بنصر الرُّسُلِ

وهو نظم جامع مُحَرَّرٌ لا يستغني عنه عالِمٌ مُنتَهٍ ولا طالبُ عِلْم ، وله عليه حاشية بَيَّنَ فيها تخريج أدلته زيادة على ما في متن النظم من ذلك ، وهو نحو 700 بيت ؛ وهذا النظم ابتدأ في تاليفه في مسجد الخليل عليه الصلاة والسلام والمسجد الأقصَى وختِمَ بالجامع الأزهر بِمصر القاهرة كما اشار إليه في آخره بقوله :

بدأتـه بِمسجـد الْخَلِـيـلوالْمَسْجِدِ الأقصَى حِمَى الْجَلِيل
وكان إتمامـي لـه بالقاهـرةبأزهر العلم فزانـت ظاهـرة
وزان نَصرُ الرُّسْل منه الباطنا ،زانَ به ربُّ الـوَرَى الْمَواطِنـا

وهوتاليف نافع لَم يُسبَق لِمثله ، ويَصِحُّ أن يرجع إليه الفريقان المتنازعان في بعض المعتقدات إذ ليس فيه تعصبٌ لغير الحق ولا شتم لفريق ولو خالف رأي الناظم ، وكلُّ حُجّةٍ فيه مَعزُوَّةٌ لِمحلها عزواً صحيحاً ، وسيُطبَعُ عن قريب إن شاء الله .

ومنها منظومته في علم البيان الْمُسَمّاة (فاكهة الخِوان في نظم أعلى دُرر عِلم البيان) وقد طبع متنُها ، وهي منظومة جامعة لَم تترك شاردة من هذا الفن مع غاية التحرير والإيضاح ، والوقوفُ عليها يكفي في صحة ما قلناه في شانِها .

وله عليها حاشية نفيسة كالشرح لَها ، سَمَّاها (فرائد البيان على فاكهة الخِوان) .

ومنها منظومته الْمُسَمَّاة (هدية الْمُغيث في أمراء المومنين في الحديث) ، وقد طُبِع متنُها مع تعليقات قليلة من شرحها الواسع .

ومنها (هداية الرحمن فيما ثبت في الدعاء المستعمل ليلة النصف من شعبان) .

ومنها (الجوابُ الْمُقنِعُ الْمُحَرَّر في أخبار عيسى والْمَهْدِيِّ المنتظر) .

ومنها (الْخُلاصة النافعة العلية) .

ومنها (تزيين الدفاتر بِمناقب ولي الله الشيخ عبد القادر) .

ومنها (الفتح الباطني والظاهري في نثر ونظم الوِرْد القادري) . وكُلُّها مطبوعة بِمِصْرَ .

ومنها (كِفاية الطالب لِمناقب علي بن أبي طالب) ، وهو جزء مُحرَّرٌ أشبع فيه الْمُوَلِّفُ الكلام على مناقب ابنِ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخَرَّج جميع ما ذكره من الأحاديث فيه ، والتزم الإنصاف مع التحقيق دون إفراط الروافض وتفريط مَن فَرَّط في حق أمير المومنين علي بن أبي طالب كالخوارج ومن شاكَلَهُم في الْمُعتَقَد . وقد طُبِعَ هذا الجزء أيضاً .

ومنها (الفوائد السَّنِيَّة في بعض الْمَآثر النبوية) .

ومنها (إيقاظ الأعلام لوجوب اتِّباعِ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الإمام) وقد طُبعا معاً .

ومنها (منظومة في المواعظ نافعة للصغير والكبير) وهي مطبوعة مع الخلاصة النافعة العلية .

ومنها شرحُهُ العظيم لمنظومة الشيخ عبد العزيز الزمزمي المكي في علوم التفسير الْمُسَمَّى " تيسير االعسير من علوم التفسير " وقد اختصره في شرح مختصر ممزوج بالْمَتن سَمَّاه (تقريب التيسير من علوم التفسير) وكلاهما في غاية الإفادة في هذا الفن .

قال الْمُترجِم :

وللمُوَلِّف مُوَلَّفات كثيرة غير ما ذكرنا ، منها ما هو مُسَوَّدٌ إلى الآن لَم يُبَيَّض ، كشرح الجوهر المكنون الْمُسَمَّى (إبراز الدر الْمَصُون على الجوهر المكنون) ، و (السبك البديع الْمُحْكَم في شرح نظم السُّلَّم) أي سُلَّم الأخضري في علم المنطق ، وكشرحه لمنظومة العمريطي الْمُسَمَّى (أنوار النفحات في شرح نظم الورقات) ، وكشرحه لمنظومة خاله محمد بن أحمد بن أبي في نوع من علم السيرة وقد اشتمل ذلك النظم على أول بدء إسلام الأنصار وبيعتهم عند العقبة ثلاث مرات في ثلاث سنين وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم ودخوله الغار ومعه صاحبه الصديق رضي الله عنه وما وقع له في أثناء هجرته ودخوله المدينة وبناء مسجده الشريف ، وقد سَمَّاه مُوَلِّفه بِما لفظُه :

سَمَّيته : لبابَ علم عِلْمِ السِّيَرِفي نصرِ الاَنصارِ لِخَيْرِ مُضَـرِ

وسَمَّى الْمُتَرْجَمُ شرحه له (مُسامرة الأحباب في شرح نظم اللُّباب) .

ولِلمُوَلِّف رسالة نافعة في أربعين حديثاً بأصح سند وهو رواية مالك عن نافع عن ابن عُمَرَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أصح سندٍ في الدنيا ، واشترط الْمُوَلِّفُ فيها أن يكون كل حديث فيها باتفاق الصحيحين وقد رواه مالك في موطئه أيضاً وشرحها شرحاً نافعاً .

وله رسالة اختصرها من كتاب (زاد المسلم) سَمَّاها (أصح ما ورد بعد القرآن للمسلم مما اتفق عليه البخاري ومسلم) .

وله أيضاً رسالة اقتطفها من (زاد المسلم) أيضاً سَمَّاها (إتحافَ أبناء الزمن بِحَصْرِ ما اتفق عليه الشيخان من الأحاديث الْمُصَدَّرة بِـمَنْ) .

إلى غير ذلك من مُوَلَّفاته في علوم القرآن وعلوم الحديث والفقه وسائر الفنون مما يطول ذِكْرُهُ الآن في هذه العُجالة .

وقد حجَّ الْمُترجَمُ بعد حجة الفرض نحو سبع مَرّات ، واعتَمَر مراراً ، واعتكف في مسجد سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام ، وجاور بالمدينة المنورة سنين وأزيَدَ منها بالمسجد الحرام ، ولَقِيَ كثيراً من أعيان العلماء والأولياء في بلاده ، وصحِبَهم في غربته بالحرمين وبفاس ومراكش ومصر والقاهرة ودمشق والشام ، وأجازه كثير من أجلاء العلماء الذين ارتضاهُم ، وكان يَختار الْمُعَمَّرين منهم من أهل الديانة خاصة ، كما بَسَطَ ذلك في (مقدمته العلمية في ذكر الأسانيد العلمية وفوائد العلوم السنية) ، ولا يزال معتكفاً على إتـمام باقي مُوَلَّفاتِه أتَمَّها الله تعالَى له على الْمُراد ، وخَتَمَ لنا وله بالإيمان الكامل بِجوار خير العباد رسولنا وشفيعنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، اللهم آمـين .

وهنا انتهى ما كتبه تلميذ الشيخ ، جزاه الله خيراً .

قال الشيخ محمد عبد الله بن الصِّدِّيق حفظه الله مُستَكْمِلاً الترجمة :

وأزِيدُ أن الشيخ محمد حبيب الله رحمه الله كان قد أقام فترة طويلة بِمكة المكرمة ناشراً للعلم تدريساً وتاليفاً ، حتى ضاقت عليه أرضُها بِما رَحُبَتْ ، وعند ذلك انتقل منها إلى مصر ، فوجد فيها التكريم والاحترام والتبجيل والإعظام وقضى بقية عمره بالقاهرة مُنكَـبّاً على التدريس والتاليف ، فكان مُدَرِّساً بالأزهر الشريف والصرح المنيف ، وعنه أخذ جماعة من العلماء المصريين وغيرهم ، ومن أعيان المصريين الذين أخذوا عنه وصرَّحوا باسْمه في كتُبُهم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي إذ يقول في مقدمة كتابه " اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان " :
ولا أعلم كتاباً جمع فيه مولفه الأحاديث المتفق عليها إلا كتاب (زاد الْمُسْلِم فيما اتفق عليه البُخاري ومُسْلِم) لأستاذنا المرحوم الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي ....

وأحمد بن عبد الرحمن الساعاتي فقد ذكر في مقدمة ترتيبه لِمُسند ابي داود الطيالسي أنه رواه عن شيهنا المذكور الشيخ محمد حبيب الله ، ولَم يحضُرْني الكتاب الآن فأنقُل عبارته بنصها .

هذا ومن شدة اعتنائه بالحديث الشريف والأخذ عن أئمته أنه اثناء إقامته بِمكة المكرمة أرسل إلى الإمام الحافظ الشيخ عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني يستجيزه وذلك بتاريخ منتصف المحرم سنة 1342 هـ ، وكان ذلك سبباً لتاليف الحافظ الكتاني لكتابه " فهرس الفهارس " وضمنه إجازته للشيخ ، وذكر فيه نص الرسالة الموجهة إليه منه ، ولَم يزل مشتغلا بالعلم والعبادة إلى أن انتقل إلى رحمة ربه سنة 1363 هـ .

وقد سردَ العلامة الْمُؤَرِّخ المُعَمَّرُ الشيخ المختار بن حامدٌ الدَّيْماني رحمه الله في مُعجَمِه الصغير في الْمُوَلِّفين الموريتانيين أسماء تآليف الشيخ فبلَغَتْ 45 مُوَلَّفاً في فنون شتى .

ويكفي من ثناء الناس عليه وعلى مُوَلَّفاته ما قرَّظَه به جماعة من أجلاَّء العلماء كِتابة ، فَمِن هؤلاء :

• شيخ الجامع الأزهر حضرة صاحب الفضيلة العلامة الذائق الدراكة المحقق الشيخ الأكبر : محمد مصطفى المراغي .
• وفضيلة الأستاذ الكبير العلامة الشهير صاحب الأخلاق الْمَرْضِيَّة والتحقيقات السَّنِيّة فريد العصر والأوان الشيخ : عبد المجيد اللَّبان شيخ كلية أصول الدين .
• والعلامة الذائق المحقق الفائق فاتق رَتْقِ المشكلات خائض بُحور الْمُعْضِلات مُفتي الدِّيار المصرية سابقاً الشيخ : محمد بَخيت الْمُطيعي الحنفي .
• والعلامة الكبير المحقق الشهير سيف الله تعالَى الْمُجَرَّد على مَن على الجنابِ النبوي تَمَرَّد أحد كبار علماء الأزهر الشيخ : يوسف الدجوي .
• والعلامة الكبير الدَّيِّن الشهير مُحدِّث الديار المصرية في أوانِه خادم تدريس الحديث بالمسجد الحسيني طول زمانِه الشيخ محمد بن إبراهيم السمالوطي المالكي رحمه الله ، فهؤلاء كلهم من علماء الأزهر الشريف .

ومن الذين قرَّظوه من غيرهم :

شقيق الْمُوَلِّف العلامة الكبير المحدث الشهير مفتي المالكية بالمدينة المنورة الشيخ : محمد الخضر بن ما يابَى الجكني ثُمَّ اليوسُفي الشنقيطي إقليماً رحمه الله ، فقد قرَّظه قبل وفاتِه بنحو ستة اشهر ، ووفاته كانت بالمدينة المنورة سنة 1353 هـ .

ومُحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحَسَّانُه الرَّبَّانِيُّ وشارعه الْمُجيدُ المرحوم الشيخ : يوسُفُ النّبْهانِي ، فقد أجازَ الْمُوَلِّفَ وقرَّظَ كتابه (زاد الْمُسْلِم) وشَرْحَهُ في آخِرِ عُمُرِه قبل وفاته بأقل من سنة ، حيثُ زاره الْمُوَلِّفُ بقرية اجزم بفلسطين واستَجازه .

ومنهم سلطان المغرب الأقصَى المرحوم السلطان مولاي عبد الحفيظ علامة زمانه ابنُ السلطان مولاي الحسن .

وإمام اليَمَن أمير المومنين الإمام يحيَى بن محمد حميد الدين صاحب العلوم الغزيرة والمآثر الكثيرة الشهيرة .

ومن الشعراء الذين قرَّظوا الكتاب المذكور :

خُلاصَة الأمراء المجاهدين وسادة آل البيت المقربين مُرَبِّيه رَبِّـه الشنقيطي إقليماً ابن العالِم العامل الشيخ ماء العينين الذي ذاع صيتُه بين الخافقَيْن ؛ فَنَظَمَ قصيدتَه الطّنانة التي مطلِعُها :
حَي الرُّبوعَ وقف بذات الْمَلْزِمواذْرِ الدُّموعَ بِدارِساتِ الأرْسُمِ

ثُم يَتَخَلَّصُ فيقول :
هـذا وشَمِّـرْ للعُـلَـى مُـتَـزَوِّداًلِقَصِيِّهـا بِـدُروسِ (زادِ الْمُسْـلِـمِ)
يا عِزّض مَـن أمْسَـى يُـلازِمُ دَرْسَـهُيا فَوْزَ مـن أمْسَـى لذلـك يَنتَمـي
أعلى الصحيحِ ، وزانَـهُ فـي سَبْكِـهِما رَصَّعَتْ فَتَحـاتُ (فَتـحِ الْمُنعِـمِ)
إن شاركَته مُسَمَّيـاتٌ فـي الصحـيــحِ علَى شُروط الْمَعشـرِ الْمُتَقَـدِّم
فالشمسُ شارَكَتِ الكَواكِبَ في اسْمِها ؛والْمِسْكُ أعلَى الطِّيبِ وهْوَ مِن الـدَّمِ

إلى آخِرِها ، وتبلُغُ أبياتـها نحو 43 .

وقرَّظه علماء وشعراء آخرون ، وهذه التقاريظ مُثـبَتَة بذيل آخر جزء من الكتاب المذكور .

وبالجملة فكل من طالع ترجمة الشيخ بإنصاف يعلمُ أنه مِن أفذاذ العلماء الْمُبَرِّزين في العلوم . وقَلَّ أن يوجَدَ له نظير ، فرحِمَه الله تعالَى رحمة واسعة .

كتبه
لثلاثَ عشرة بقِيَتْ من ذي القعدة 1415 هـ موافق 17 / 4 / 1995م

مُحَمَّد عبد الله بن الصِّدِّيق الجكنِيُّ الشنقيطي
المفتي بدائرة القضاء الشرعي في أبو ظبي
دولة الإمارات العربية المتحدة